(يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ) (الرحمن: 33)
هذه الآية الكريمة جاءت قرب نهاية النصف الأول من سورة الرحمن, التي سميت بتوقيف من الله (تعالي) بهذا الاسم الكريم لاستهلالها باسم الله الرحمن, ولما تضمنته من لمسات رحمته, وعظيم آلائه التي أولها تعليم القرآن, ثم خلق الإنسان وتعليمه البيان.
وقد استعرضت الســورة عددا من آيات الله الكونية المبهرة للاستدلال علي عظيم آلائه, وعميم فضله علي عباده ومنها: جريان كل من الشمس والقمر بحساب دقيق (كرمز لدقة حـركة كل أجرام السـماء بذاتها, وفي مجموعاتها, وبجـزيئاتهــا, وذراتها, ولبناتها الأولية), وسجود كل مخلوق لله, حتى النجـم والشــــجر, ورفع السـماء بغير عمد مرئية, ووضع مــيزان العـــــدل بين الخـلائق, ومطــالبة العبـــاد بألا يطغـوا في الميزان, وأن يقيمــوا عدل الله في الأرض, ولا يفسـدوا هذا المـيزان, وخلــق الأرض وتهيئتها لاســتقبال الحياة, وفيهــا من النبــاتات وثمـارها, ومحـاصيلها ما يشهد علي ذلك, وخلق الإنسان من صلصال كالفخار, وخلق الجان من مارج من نار, وتكوير الأرض وإدارتها حول محورها, والتعبير عن ذلك بوصف الحق ـ تبارك وتعالى ـ بأنه رب المشرقين ورب المغربين, ومرج كل نوعين من أنواع ماء البحار دون اختــلاط تام بينهمــا, وإخراج كل من اللؤلؤ والمرجان منهما, وجري السفن العملاقة في البحر, وهي تمخر عباب الماء وكأنهــا الجبال الشامخات, وحتمية الفناء علي كل المخلوقات, مع الوجـود المطلق للخالق ـ سبحانه وتعالي ـ, صاحب الجلال والإكـــرام, الحي القيـــــوم, الأزلي بلا بـداية, والأبدي بلا نهاية, والإشارة إلي مركزية الأرض من الكون, وضخامة حجمهــا التي لا تمثل شــــيئا في سعة السماوات وتعاظم أبعادها, وذلك بتحدي كل من الجن والإنس أن ينفذوا من أقطارهما, وتأكيد أنهم لن يستطيعوا ذلك أبدا, إلا بسلطان من الله, وأن مجرد محاولة ذلك بغير هذا التفويض الإلهي سوف يعرض المحاول لشواظ من نار ونحاس فلا ينتصر في محاولته أبدا..!!
ثم يأتي الحديث عن الآخرة وأحوالها, ومنها انشقاق السماء علي هيئة الوردة المدهنة, كالمهل الأحمر ومنها معرفة المجرمين بعلامات في وجوههم (من الزرقة والسواد), وما سوف يلاقونه من صور الإذلال والمهانة, وهم يطوفون بين جهنم وبين حميم آن (أي ماء في شدة الغليان)؛ وعلي النقيض من ذلك تشير السورة الكريمة إلي أحوال المتقين, ومقامهم في جنات الخلد, جزاء إحسانهم في الدنيا, وتصف جانبا مما في هذه الجنات من نعيم.
وبين كل آية من آيات الله في هذه السورة التي سماها رسول الله باسم عروس القرآن لما لخواتيم آياتها من جرس رائع, نجد آية: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) التي ترددت في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة من مجموع آيات السورة الثماني والسبعين (أي بنسبة40% تقريبا) في تقريع شديد, وتبكيت واضح للمكذبين من الجن والإنس بآلاء الله وأفضاله وعلي رأسها دينه الخاتم الذي بعث به النبي الخاتم والرسول الخاتم , والذي لا يرتضي ربنا ـ تبارك وتعالى ـ من عباده دينا سواه بعد أن حفظه للناس كافة في القرآن الكريم, وفي سنة الرسول الخاتم بنفس لغة الوحي علي مدي أربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها, وتختتم السورة بقول الحق سبحانه: تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.
والإشارات الكونية في سورة الرحمن, والتي يفوق عددها السبع عشرة آية صريحة نحتاج في شرح كل آية منها إلي مقال مستقل, ولذلك سأقف هنا عند قول الحق ـ تبارك وتعالى:
(يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ) (الرحمن:33 ـ 35)
وقبل ذلك لابد من استعراض الدلالات اللغوية لألفاظ تلك الآيات الكريمات وأقوال المفسرين السابقين فيها.