Admin Admin
عدد الرسائل : 93 العمر : 43 الموقع : https://hudhud.forumactif.org تاريخ التسجيل : 20/10/2008
| موضوع: النظام السياسي التونسي نظرة متجددة - مقدمة الجزء الثاني الخميس ديسمبر 04, 2008 12:17 pm | |
| نموذج المدخلات المخرجات
لعلّ من أقدم المقاربات وأكثرها تداولا، ومن أهم النماذج، نموذج المدخلات المخرجاتschéma d’input-output . طبق هذا النموذج لفهم تفاعلات النظام السياسي، كما طبق قبل ذلك لفهم السلوكيات الاقتصادية. استخدم دافيد إيستنDavid Easton هذا النموذج لفهم تفاعلات النظام السياسي(4). أهمّ ما يميّز هذا النموذج هو انطلاقه من المدخلات، أي المؤثرات الخارجية الضاغطة على النظام. يقول إيستن إن النظام السياسي يتأثر بمحيطه، ويتفاعل معه. ومخرجات النظام، أي سياساته وسلوكياته تفهم بالتعرف على المدخلات، كما تعود إلى المحيط وتؤثر بدورها فيه. وهكذا تكتمل حلقة التفاعل.
نعطي مثالا يعتمد هذا النموذج. ضغط من قبل صغار الفلاحين إثر سنوات من الجفاف (مدخلات)، تعويضات وجدولة قروض يتخذها النظام السياسي لمساعدتهم (مخرجات)، ارتياح صغار الفلاحين ومساندتهم للنظام (ردود الفعل).
من أهمية هذا النموذج دراسة التوازن الذي يبحث عنه النظام. وهو توازن متحرك (équilibre dynamique)، بحيث أن النظام السياسي يتغير ليواكب تغيّرات المجتمع، أو يعدّل سياساته مع ضغوطات المجتمع، ويبحث دائما عن نقطة توازن جديدة.
نموذج المدخلات المخرجات ينطبق على الأنظمة التنافسية. فالأغلبية الحاكمة تحرص على البقاء. لذلك فهي حسّاسة لكل مطلب، وتبحث عن تلبيته لكسب المساندة. الطبيعة التنافسية لهذه الأنظمة، تقتضي هذا المنطق، أو هي تنطلق منه.
غير أن كل الأنظمة ليست بالضرورة تنافسية أو ليست تنافسية بالأساس. هناك أنظمة تسمى موجّهة systèmes orientés. على هذه الأنظمة، يطبق نموذجًا آخر أكثر ملاءمة.
نموذج التحليل الاستراتيجي
توجد جذور هذه المقاربة في كتابات سابقة لعلماء السياسة. لكنه وضع، وثبت كنموذج سنة 1975، في أطروحة دكتورا، تولّيت شخصيّا إعدادها(5).
منطلق نموذج التحليل الاستراتيجي مغاير لمنطلق نموذج المدخلات المخرجات. ويكاد يكون عكسيا. لا يعني هذا نفي صحّة النموذج الأوّل أو أهمّيته، وإنما البحث عن ملاءمة أفضل لأنظمة أخرى غير تنافسية، أو أقلّ تنافسية سميت بالأنظمة الموجهة. قد تكون سياسية، وقد تكون أنظمة أخرى، اقتصادية وإدارية ودولية وغيرها.
في هذه المقاربة، يرتكز التحليل على استراتيجية النظام: أهداف النظام المعلنة أو الخفية، وسياساته المتبعة. تكون الاستراتيجية هي المنطلق، هي الأساس، وتفاعلات المحيط ثانوية، في شكل ردود الفعل.
يترتب عن تطبيق هذا النموذج تقويم آخر لمردودية النظام السياسي، وقياس مختلف لنجاعته. ففي الأنظمة التنافسية، أفضل نظام هو الذي يستجيب لمحيطه، ويحافظ على توازن متغير، أو على استقراره الديناميكي. أما في الأنظمة الموجهة، فأفضل نظام هو الذي يقدر على تحقيق أهدافه، مع ملاءمة السياسات حسب ردود فعل المحيط. إنه يتحرك في سياق إستراتيجي: يريد قدر الإمكان الانتفاع من مقومات المحيط لتحقيق أهدافه.
لا يختلف النموذجان في الأصل. كل نظام يتفاعل مع محيطه، ويوازن بين تحقيق أهدافه وضرورة الاستقرار بالتلاؤم مع المحيط. إنما في كل نموذج، هناك الأساسي وهناك الثانوي، هناك الفعل وهناك ردود الفعل.
يؤدي هذا النموذج إلى تغيير المنهجية العملية لتحليل نظام سياسي، وتقويم مردوديته. في النموذج الثاني، بعكس الأوّل، نبدأ بدراسة أهداف النظام، وسياساته، ثم نرى ردود الفعل في المحيط، ثم نرى كيف تفاعل النظام مع المحيط، وكيف تهيأ من جديد لتحقيق أهدافه وسياساته، بملاءمتها، أو بالتحكم في المحيـط، أو بكليهما.
ويمكن تطبيق النموذجين على نظام واحد، وتقييمه من خلال قدرتين: تحقيق التوازن، تحقيق الأهداف.
مثال عن ذلك. نظام سياسي يريد مقاومة التجزئة العقارية، وتطوير الفلاحة الكبرى. هذا الهدف هو المنطلق. قد يلقى قبولا وقد يلقى اعتراضا. على النظام أن ينفذ سياسته دون الإخلال باستقراره. يدرس أداء النظام، بالتعرف أوّلا عن سياساته وأساليبه، ثم بقياس ردود فعل المحيط ثانيا.
تقوّم قدرة النظام من خلال نجاحه في تنفيذ هذه السياسات، وهو المؤشر الأساسي. وتكون قدرته أفضل لو تمكن في نفس الوقت من الحفاظ على توازنه وتحقيق استقراره. لكن هذه القدرة الثانية ليست الأساسية، الاستراتيجية، وإن كانت ضرورية لبقاء النظام.
وهناك نماذج أخرى عديدة للتحليل السياسي. نكتفي بذكر أحدها، وهو النموذج الوظائفي.
التحليل الوظـائفي
يدخل هذا النموذج في مدرسة أخرى للتحليل السياسي تسمى المدرسة الوظائفية. يفصل النظام السياسي لعدّة وظائف عليه أن يؤديها وإلا فإنّه، يتقهقر ويندثر. وهذه الوظائف واحدة في كل الأنظمة. ما يميّز بينها، تنوع الهياكل وأساليب الأداء.
ولعل النموذج الأكثر تطوّرا، وطبّق لدراسة عديد الأنظمة، بما فيها النظام السياسي التونسي لحدّ ما، هو نموذج ألموند وباولAlmond, G, Powell, B ، حول المقاربة الوظائفية للسياسات المقارنة(6).
ملخّص هذا النموذج هو إبراز ستّ وظائف محدّدة، ضرورية لحياة كل نظام سياسي. ويمكن تقييم مردودية الأنظمة، والمقارنة بينها، بحسب قدرتها المؤسساتية على أداء هذه الوظائف كافة. هذه الوظائف هي "تمييز المصالح" داخل المجتمع، و"التعبير عنها" قدر الإمكان، و"التوفيق بينها" بما يقلّص التوتر، و"إصدار التشريعات" الضرورية، و"تنفيذ التشريعات" بأكثر فاعلية، و"مراقبة التنفيذ" بما يحقق العدالة بين الناس.
مثال لتطبيق هذا النموذج، "إصدار التشريعات"(7). هذه الوظيفة ضرورية لكل نظام. لكن لكل نظام مؤسساته وإجراءاته في أداءها. ليست بالضرورة من الأداء المنفرد للسلطة التشريعية. قد تشاركها السلطة التنفيذية: أغلب مبادرات القوانين تأتي منها، وأغلب "التشريعات" من غير القوانين (الأوامر والقرارات) تعود إليها. وكذلك السلطة القضائية (الأحكام المبدئية للهيئات القضائية العليا التي تستقر لاحقا وتصبح بمثابة التشريع، ما يسمّى بفقه القضاء). بل في بعض الحالات، تصبح البرلمانات أداة لا للتشريع، وإنما لإضفاء شرعية على مبادرات تأتي من سلطات أخرى.
وهكذا نرى كيف أن التحليل السياسي يغاير التحليل القانوني. قد يصحّحه أيضا. في ذهن دارسي القانون، البرلمان هو الذي "يشرّع". لكن في ذهن علماء السياسة، البرلمان "يشرع" شكلا، ولا يشرع دائما. له "السلطة"، إذ لا يصدر قانونًا دون موافقة البرلمان، ولكن ليس له بالضرورة " النفوذ" الفعلي، أي أنه ليس صَانع التشريع. قد تكون للبرلمان وظائف مغايرة، عكسية حتى، كإعطاء الشرعية لمبادرات تأتي من سلطات أخرى.
يصبح البرلمان غطاءًا دستوريًا لنفوذ آخر.
نكتفي بهذه الأمثلة عن نماذج التحليل السياسي. الخشية هو أن يضيع القارئ في بحر علماء السياسة، ومنهجيات التحليل. إلى حدّ نسيان المشهد الأصلي، الذي يبقى المشهد الدستوري للنظام. منه نبدأ وإليه يجب أن نعود. | |
|